ـ بيتر, بيتر!
ـ أجل!
ـ ماذا تعرف عن الكيميائي كايدو؟
ـ كمحقق ـ صديقي مانتل ـ فإن الشهير كايدو يعد ثاني هاجس لي بعد جاك السفاح في أواخر القرن الماضي.
ـ هل تظن أنه كان ليكون بوسعك حل جرائمه؟
ـ بالطبع صديقي مانتل. وهذا ليس تعالي مني أو تكبر! لا إطلاقاً, لكن كايدو كان يبعث الرعب في قلوب الناس فلا يقوى محقق أو أي كان على السعي في كشف جرائمه, هل تصدق أنه كان يخبر الناس بمواقع جرائمه وأسماء ضحاياه ومع ذلك يعجزون عن الإمساك به.
ـ أجل بالطبع, كان مهيباً وعظيماً هذا الرجل.
ـ أتعرف! لم يكشف جرائمه سواها!
ـ الجميلة؟!
ـ أجل, الجميلة جاين كارتون!
ـ يجب أن تكون فخوراً يا بيتر لأنك عملت معها في بعض أول قضاياك, كنت أتمنى لو كنتم معك في ذاك الزمن.
ـ بالفعل أنا فخور أيها الصديق, لكن ما يشعرني بالندم هو أنني كنت يافعاً ولم أقدر عِظم ذاك الموقف.
طُرق الباب في تلك اللحظة, قفز مانتل بنشاط وأسرع لفتحه, وقفت وراءه سيدة تبدو في الأربعين من عمرها, أنيقة الملابس, حادة الملامح وطريقة سيرها ونظرها إلى الرجلين والأثاث المجاور هدت بيتر لبعض صفات تلك السيدة, جلست مقابلاً لبيتر ووضعت عصاها بالقرب منها, رفعت رأسها ونظرت لبيتر بعينيها الحادتين وقالت بلهجة جافة:
ـ مرحباً سيد كوريندكانت, أعتذر عن عدم أخذي موعداً والقدوم في هذا الزمن, لكن الأمر طارئ ولا يحتمل التأخير.
ـ بماذا أخدمك سيدة…؟
ـ سيدة تريفور, ماري تريفور! لقد تعرضت للسرقة.
ـ هذا سيء! الجميع بتعرض لها, لكن لابد أنه أمر مهم حتى تكبدي نفسك عناء القدوم إلى هنا من شرق بلوشان!
أعادت السيدة رأسها إلى الوراء, قطبت حاجبيها وبيتر يستمتع بالنظر إلى الحيرة التي رسمها لتوه على وجهها.
ـ أخبرني بالله عليك كيف عرفت ذلك؟ هل قابلتني من قبل؟
ضحك بيتر بتهذيب وأرجع شعره إلى الوراء وقال:
ـ فليكن الله في عون سكان الجزء الشرقي, فبقايا الجير دائماً ما تُطبع على عِصيهم وأحذيتهم, لكنك أنيقة جداً لتهملي أمر حذاءك, ولست حريصة كفاية أيضاً لتهتمي بأمر عصاك, لكن هذا يدل أيضاً على خطورة الوضع, لا تضعي لما قلت اعتبار واسردي لي مشكلتك!
ـ حسناً. وردني خبر وفاة والدتي الأسبوع الماضي وسافرت إلى شمال لندن لحضور مراسم الدفن, بعدها طلب منا محامي والدتي الاجتماع بنا ليوزع ورثتها, كانت والدتي فاحشة الثراء لكنها وزعت جميع معظم ثروتها على الجمعيات الخيرية والمستشفيات وما شابه ولم تبقي لنا ـ أنا وأختي ـ إلا القليل من المال مع بعض المجوهرات ومقتنياتها الشخصية, كان من حظي أن أحصل على عقد اللؤلؤ الخاص بها والذي يعد كنزاً حقيقاً يحمل قيمة مادية ومعنوية كبيرة! عدت بعدها إلى بلوشان وبحوزتي العقد وموروثات أخرى, ومن شدة حرصي عليه وعلى توريثي إياه لأبنائي استخرجت خزينة لي قديمة ووضعت فيها العقد حتى أنني نسيت الأرقام السرية وكتبتها في ورقة حتى ترسخ بذهني! أخبرت زوجي بما حصلت عليه حين كنا ننوي النوم وقد أصر علي أن أطلعه على الرقم السري فأضئت الشمعة وأطلعته على الورقة حتى يرضي فضوله, لكن حينها سمعت وقع صوت أقدام تمشي في الممر أمام الغرفة فنهض زوجي لتفقد الأمر ولم يجد شيئاً غير قلم رصاص وأظنه يعود لابنتنا الصغيرة ـ ليزلي ـ وهكذا نمت تلك الليلة وأنا مطمئنة البال رغم ما حدث. سارت بقية الأيام بشكل ممتاز وكنت أتفقد الخزينة كل يوم, وفي ليلة الأمس, خرجت أنا زوجي لحضور حفل زفاف في منتصف بلوشان, وقد تركت في المنزل الصغيرة ليزلي مع مربية الأطفال بالإضافة إلى الخادمة سارا التي كانت تمضي أخر يوم لها في الخدمة حيث رفضت العمل في المنزل بدون مبرر وقررت السفر والعودة إلى الديار, وكان هناك أيضا ابن أختي الفتى المدعو جيمس ويك المقيم معنا للدراسة. خرجنا عند حوالي التاسعة مساءً وقضينا هناك ما يقارب الثلاث ساعات لم أشعر خلالها بالزمن لشدة اندماجي في الحديث واستمتاعي بالحفل. عدت عند منتصف الليل وكان زوجي أخبرني أنه يود إنجاز بعض المهام وأنصرف عند الحادية عشر, أول شيء فعلته هو تفقد الخزينة وهنا كانت الصدمة! اختفاء عقد اللؤلؤ! وما زاد الأمر سوءً أن اللص هاجم ابن أختي ـ جيمس ـ وكسر ذراعه! لم أدر ما أفعله وكيف أتصرف صوب هذه المصيبة المزدوجة, وحين تحدثت مع المربية أخبرتني أنها كانت نائمة منذ العاشرة والنصف مع الصغيرة ليزلي. عاد زوجي عند الواحدة صباحاً, وأخبرته بما حدث وهرعنا إلى المستشفى حيث نقل صديق جيمس صديقه هناك لمعالجة الكسر وانتهى الأمر بوضع جبيرة على ساعده الأيسر وعدنا إلى المنزل, تحدثت معه عن ما حدث وأخبرني أنه كان يدخن سيجارته أمام الباب عند الحادية عشر والنصف ولاحظ رجل متوسط الطول يحوم في الشارع المقابل, لم يعبأ به وعاد إلى المنزل وبعد لحظات سمع صوت أقدام في المنزل وتفاجأ بوجود الرجل نفسه بالداخل, تعارك معه وانتهى أمر الفتى جيمس بكسر في الذراع, وبينما جيمس المسكين يتلوى من الألم صعد اللص إلى أعلى وأخذ العقد من الخزينة ـ ولا أعرف كيف ـ وأنصرف, وقد زحف جيمس إلى الخارج وصادف صديقه صدفة ونقله الأخير إلى المستشفى. هذا ما حدث بالضبط سيد كوريندكانت, أرجو أن ترى ما يمكنك فعله!
نهض صديقي من مقعده ودخل المطبخ, خرج منه وبيده عود ثقاب ودخل لعدها إلى غرفته وأغلق الباب. نظرت السيدة تريفور إلى مانتل وسألت:
ـ ماذا به؟
هز مانتل كتفيه وأجاب:
ـ ليس لدي أدنى فكرة.
خرج بيتر وعاد إلى كرسيه وقال وهو مبتسم:
ـ حسناً, بعض الأسئلة لأبدأ منها التحقيق. هل رأى الفتى جيمس وجه اللص؟
ـ لا, لقد كان ملثماً.
ـ هلا وصفت لي زوجك؟
ـ هل يمكن…
قاطعها:
ـ أعتذر يا سيدتي, فقط أعطني أوصافه.
ـ رجل متوسط الطول في الخمسين عمره لكن ما يزال بصحة جيدة.
ـ هل يستطيع صرع صديقي؟
وأشار إلى مانتل.
ـ أظن ذلك, فهو ملاكم قديم!
ـ هذا جيد, أكتبي لي عنوان إذا سمحت وسأزورك ليلاً.
أخرجت السيدة تريفور من حقيبة يدها قلم حبر ومذكرة أخذت منها ورقة وأعادتها, كتبت العنوان على الورقة وسلمتها لبيتر, نظر إلى الورقة وضحك مباشرة, أدخلها في جيبه ونهض:
ـ تمتلكين خط يد ممتاز, لكن أراهن أنك تستهلكين الكثير من الحبر, هذا مضر باقتصاد بلوشان يا سيدة تريفور.
أنصرف نحو غرفته وقال:
ـ سأبذل قصارى جهدي لحل قضيتك.
رافقها مانتل حتى الباب, وعاد ليجد صديقه جالساً على الكرسي مجدداً.
ـ تتصرف بغرابة اليوم.
ـ أجل, ربما أفعل, من يدرى؟
ـ ماذا ستفعل الآن؟
ـ أتناول الغداء ومن ثم أتجه إلى شرق بلوشان.
ـ هل تحتاج إلي هناك؟
ـ لا أظن ذلك, هذه القضية ليست بالكبيرة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عند حلول الظلام عاد بيتر إلى المنزل, بدا الإرهاق على وجهه واضحاً, تناول قطعة من الأجاص ودخل إلى غرفته وبيده صندوق خشبي. أغلق خلفه الباب وراح يحادث مانتل عبره:
ـ هل وصلت إلى نتيجة؟
ـ أجل فعلت, وغداً عند التاسعة مساءً ستكون السيدة تريفور معنا.
ـ هل وجدت العقد؟
ـ هذا ليس من شأنك صديقي مانتل, سأخلد إلى النوم الآن وأتمنى أن تفعل أنت ذلك.
ـ أوه, لا نتيجة من الجدال معك.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مرت اثنان وعشرون ساعة وأشارت الساعة إلى التاسعة مساءً. وصلت السيدة تريفور في موعدها وأعد لها بيتر بنفسه المقعد للجلوس.
ـ أخبرني سيد كوريندكانت, هل وصلت إلى نتيجة؟
ـ بالطبع فعلت, الحقيقة أنني حللت القضية منذ الأمس.
ـ حقاً؟ ولماذا لم تخبرني؟
ـ فلنقل أنني أنوي حل القضية بالطريقة المثالية. أتمنى أن تكوني تعاملت مع رحيل جيمس إلى لندن مع والدته.
ـ أحاول ذلك, لكنني أشعر بالذنب تجاه ما أصابه.
ـ حسناً, عندما زرتك بالبارحة لاحظت أثار الأقدام وكنت أنوي مطابقة ما استنتجته مع ما سمعته منك لكنني لم أستطيع, فقد كانت الحقائق نافية تماماً لكلامك.
اعتدلت السيدة في جلستها وقال مستفسرة:
ـ المعذرة؟!
ـ أظن الوقت متأخر ولا زمن للمماطلة.
انتصب واقفاً ودخل غرفته وعاد وهو متأبط للصندوق الخشبي, جلس ووضع الصندوق على ركبتيه. فتحه ببطء وأدخل يده فيه وأخرجها وإذا بعقد اللؤلؤ في يده. شهقت السيدة تريفور ووضعت كلتا يديها على فمها, أخذت العقد من يدي بيتر وراحت تتفحصه.
ـ هل هذا هو؟
ـ أجل هو نفسه, أين وجدته؟
ـ رما هذا قد يعطيكِ إجابة مرضية.
أعاد يده إلى الصندوق وأخرج هذا المرة جبيرة! زادت دهشة السيدة تريفور حين رأت الجبيرة وراحت تتلعثم, شرع بيتر مباشرة في حديثه:
ـ حضرت إلى منزلك ذو الموقع الفريد والمتميز, لم ألاحظ أثار أقدام شخص أخر غير أفراد المنزل, كما لم ألاحظ أثار زحف جيمس كما ذكرت, أو أثار شجار في المنزل, وحتى المزهرية المكسورة أوقعت عمداً! كل هذا جعلني أشك في الفتى جيمس ويك وأبعد شكوكي عن السيد تريفور. وإليك ما حدث يا… بعد خروجكما من المنزل أنتظر جيمس ويك حتى نامت الصغيرة ليزلي مع مربيتها وعندها دخل غرفتك وفتح الخزينة وأخذ العقد بكل بساطة. خرج بعدها إلى صديقه الطبيب ـ عديم الأخلاق ـ وطلب منه صنع جبيرة مزيفة على ساعده الأيسر وأخفى العقد داخلها, ثم أنتظر ببساطة في المستشفى حتى حضرتي مع زوجك بتفقد حاله, وقرر بعد نجاح خطته السفر إلى لندن حيث أعتبر العقد ملكاً له هو ولوالدته وأنك لا تستحقينه. ومن منظروك ستظنين أنه سافر إلى هناك من أجل عدم توفر الحماية اللازمة له! وقد تتساءلين كيف عرف الأرقام السرية؟ الإجابة عندما أطلعت زوجك الورقة ظهرت الكتابة بالجهة الأخرى على الورقة وصار من مقدور جيمس الذي كان يختلس النظر إليكما رؤية الأرقام المعكوسة وهذا ما فعله بالفعل وعرف الأرقام السرية وصار ينتظر الفرصة المناسبة لتنفيذ فعلته. الصراحة أن الأمر كان غير منطقي لي لكنني جربته بالأمس عندما أسرعت إلى غرفتي وبيدي علبة أعواد الثقاب وأجريت التجربة وتأكدت من نتائجها. ولتأكيد كلامي ـ سيدة تريفور ـ تأكدت من سجلات الحجز إلى لندن خلال الأسبوع القادم وتبين لي أن جيمس ويك حجز مقعده للسفر قبل يومين من الحادث مما أكد لي صحة استنتاجي, بالإضافة إلى حديثي مع الطبيب الذي أعترف بعد تهديدي له بفضحه.
ـ لا أعرف ماذا أقول, أفرح لعودة العقد أم أحزن لفقدان الفتى جيمس؟!
ـ هوني على نفسك سيدة تريفور, المهم أن الإرث العائلي ما زال معك وأتمنى تحافظي عليه.
شكرت السيدة بيتر وانصرفت. أطفأ بيتر الأنوار وأشعل شمعة ووضع خلفها الورقة التي عليها عنوان السيدة تريفور حتى صار بمقدور مانتل رؤية العنوان بالمقلوب, أضاء المصباح مجدداً وسأله مانتل:
ـ ماذا عن الفتى؟
ـ لقد خليت سبيله, لا أظن أن العائلة بحاجة إلى فضائح.
أطفأ الشمعة بأنفاسه وقال:
ـ لولا تريث السيدة تريفور وعدم اتهام زوجها لكانت الآن بلى زوج. لكنها سيدة حكيمة وأفشلت خطة الشيطان الصغير جيمس للإيقاع بالسيد تريفور! ما أشد ذكاءه؟ أتعرف يا مانتل أنه هو من دبر خروج السيد تريفور من الحفل مبكراً وعودته متأخراً للمنزل؟ كما كان دقيق في الوصف, من يستطيع كسر ذراع أحدهم أفضل من ملاكم حديدي سابق؟!!
قضية عقد اللؤلؤ
