(2 )
إذاً هلم بنا إلى مسرح الجريمة.
أنطلق الثلاثة معاً بسيارة الشرطة القديمة إلى مسرح الجريمة, وقعت الجريمة داخل متجر الزهور حيث تعمل الضحية ـ السيدة براون ـ 
جاب بيتر المكان عدة مرات وقال:
ـ من هو صاحب المتجر؟
أجابه أحد رجال الشرطة.
ـ أننا نتحدث معه في الداخل.
ـ جيد, بعد فراغكم منه, أريد التحدث معه.
تقدم نحو الكيس حيث وٌضعت الجثة, فتح كيس وألقى نظرة عليها وتأكد من سبب الوفاة, وهو طعنة في القلب. فجأة أخرج من سترته قلماً وطلب من الشرطة ورقة وسلمت له على الفور, حملها وخرج خراج المتجر وعاد بعد ربع ساعة, أستقبله الشرطي وقال له:
ـ إنه في انتظارك سيدي, في الغرفة المجاورة.
تبسم بيتر مجاملاً وتوجه نحو الغرفة ومع مانتل كما كانت عادته عند الحديث مع أحدهم. يُدعى صاحب المتجر روبرت هوب, متوسط الطول والحجم ولطيف ملامح الوجه, والقلق ظاهر على وجهه. جلس بيتر ومانتل مقابلاً له.
ـ مرحباً سيد هوب, أنا بيتر كوريندكانت وأود أن أسألك بعض الأسئلة؟
ـ لقد فعلوا ذلك لتوهم!
ـ أعتذر, لكن أسئلتي مختلفة.
ـ لا أمانع, تفضل.
أعجب بيتر بهذا التعاون.
ـ حسناً سيد هوب, ماذا تعرف عن السيد براون؟
ـ ليس الكثير, إنها في الستين من عمرها وكثيرة المرض, لا تمتلك أبناءً وهي أرملة منذ ما يقارب العشرين عام, كانت تعيش في مدينة لار المجاورة لكنها انتقلت هنا بعد وفاته حسب ما ذكرت.
ـ ومنذ متى تعمل معك؟
ـ نحو ثلاث سنوات!
ألتفت بيتر نحو ومانتل ومد شفتيه وقال وهو يعيد نظره إلى السيد هوب:
ـ هذا كثير, إذاً متى حدثت الوفاة؟
ـ ليلة أمس, حوالي التاسعة حسب ما ذكرتم.
ـ ذكرنا؟
ـ أعني رجال الشرطة.
ـ أوه, وأين كنت حينها؟
ـ خرجت إلى المقهى المجاور منذ الثامنة مساءً, وتحدث مع أصدقاء لي.
ـ ثم؟
ـ وعندما عدت عند العاشرة وجدت رجال الشرطة يطوقون المكان.
ـ إذا أحد الزبائن هو من أكتشف الجثة!
ـ أجل, وقد بلغ الشرطة على الفور.
نهض بيتر من مقعده وجاب أرجاء الغرفة وقال وهو يفعل ذلك:
ـ هذه غرفتك حسب ظني؟
ـ أجل.
ـ أعتذر عن إضاعة زمنك, وعن خرق خصوصيتك والحديث معك في غرفتك الخاصة!
ـ لا مشكلة يا سيدي, سأفعل كل ما في صالحكم.
ـ أقدر لك ذلك.
هم بيتر بالخروج لكن السيد هوب استوقفه بقوله:
ـ أرجو المعذرة, لكن هل يمكنني طلب أمراً صغير؟
ـ تفضل!
ـ كما تعلم فالسيدة براون طاعنة في السن وكثيرة المرض وكانت تتوقع موتها في أي لحظة, وقد طلبت مني ـ وألحت علي بذلك ـ أن أنقل جثمانها إلى لار مسقط رأسها بعد وفاتها…
ـ حسناً؟
ـ رفض رجال الشرطة الطلب, لذا هلا أقنعتهم بفعل ذلك؟ أرى أن كلمتك مسموعة بينهم.
ـ لا مشكلة بتاتاً, ومتى ستنقل الجثة؟
ـ غداً صباحاً, فقد أرسلت لإحدى الشركات في لار أن تحضر التابوت وكل ما يتعلق بالأمر وسيحضرون عصر هذا اليوم وسأتكفل أنا بدفع تكاليف ذلك عرفاناً لها ولأنني الوحيد المتبقي لها.
ابتسم بيتر بإعجاب وصافح الرجل:
ـ لك ذلك سيد هوب, رجل صالح!
خرج بيتر ومانتل نحو المتجر وهناك تحدث بيتر إلى المحقق لانج  على إنفراد بشأن الجثة وقد وافق الأخير.
ـ مانتل!
ـ أجل.
ـ أظن أن عملنا انتهى هنا؟
ـ هل عرفت القاتل؟
ـ سنناقش ذلك لاحقاً.
خرجا من المتجر وصاح بيتر للمفتش لانج وهو يغادر:
ـ فليكن الرب في عونك سيد لانج, إلى اللقاء!
 
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
 
تناولا الغداء في المنزل وجلس بيتر على عتبة الباب, جاء مانتل ووقف خلفه وراحا يتحدثان, حاول مانتل أن يستدرجه للحديث عن القضية وعن تصرفاته, لكنه يتجنب الحديث ويراوغ.
قٌبيل غروب الشمس, لمح الرجلين السيد كيرنر يركض بهلع نحوها, أصابت الدهشة مانتل بينما كان بيتر جامد الوجه ومبهم التعابير, توقف كيرنر أمامها وقال لاهثاً:
ـ لقد عرفت كل بلوشان بالخبر؟
قال بيتر بحدة ودون أن ينظر إلى وجهه:
ـ هذا مؤسف, وماذا كنت تتوقع؟ الخاتم الذهبي ينتمي إلى بلوشان معنوياً وإن كان ملك لعائلة كيرنر مادياً.
ـ وكيف عرف الجميع بذلك؟ جميع الأعمدة, حاويات القمامة وحتى السيارات أُلصقت عليها ورقة عن حادث السرقة.
ـ رما هذا أفضل لك؟!ّ
ـ أفضل… أوه! أتمنى ألا يعرف والدي…
ـ المهم سيد كيرنر أن يعرف رجال الشرطة بالأمر, وأن يخاف اللص. أما الآن عد إلى منزلك, لقد أعطيتك كلمتي ولن أتخاذل.
استدار السيد كيرنر دون كلمة أخرى غير عبارة الشكر وانصرف نحو منزله. ألتفت بيتر نحو مانتل وقال:
ـ ما رأيك بتناول الدجاج على العشاء؟
ـ لا أمانع.
ـ سنخرج بعد ساعة أيها الصديق, دعنا ننتقم من فصيلة الطيور اللعينة بأكملها!
ـ كما أود مقابلة الجراح ريتشارد.
ـ الجراح الشاب الذي عملنا مع في قضية العالم الصيني الذي حاول تحضير إكسير الحياة؟
أومأ برأسه بالإيجاب.
 
 
 
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
 
استيقظ مانتل بلاسم صباح اليوم التالي, لم يجد صديقه في المنزل, أغتسل وتناول قهوته الصباحية وجلس في القاعة يقرأ الصحيفة, عند الثامنة دخل مانتل وعلى وجهه علامات الرضا التام. نهض مانتل وبادر بسؤاله:
ـ هل حللت اللغز؟
ـ اللغزين إذا سمحت!
ـ السرقة والقتل؟
ـ أجل, ولا مزيد من الأسئلة حتى حضور عميلنا المحترم السيد كيرنر… الحمد لله أنني درست علم النفس.
في تمام العاشرة وصل السيد كيرنر وجلس مقابلاً لبيتر, رحب به بيتر وهو متخذ لوضعيته الشهيرة لحل اللغز, المرفق على الطاولة الخشبية, اليد اليمنى تمسك القبضة اليسر, ومعصمه الأيسر مُزين بساعته البرونزية. أدخل هذا المشهد السرور على قلب مانتل الذي توقع حينها سماع استنتاج مهم.
أدخل بيتر يده داخل جيب سترته وأخرج الخاتم! شهق السيد كيرنر حتى كادت تنقطع أنفاسه حمل الخاتم من بيتر وراح يقلبه في يده, سأله بيتر بثقة عالية:
ـ هل هذا هو؟
ـ أجل سيد كوريندكانت, لا أعرف كيف أشكرك… أنا حقاً ممتن!
ـ لقد وعدتك سيد كيرنر, أما الآن فأظن أنك ترغب في سماع ما حدث؟!
ـ أجل بالطبع!
ـ حسناً… دعوني أخبركم أن للقاتل عقلاً ممتازاً حيث أراد جمع الكثير من الثروة بسرقة شيء ضئيل, فوقعت عينه على خاتم ال كيرنر, الذي يساوي بلا شك ثروة قد تغنيه طول حياته القصيرة! وما شجعه على ذلك أيضاً ضعف الإجراءات الأمنية في منزلكم سيد كيرنر, وقد أختار الزمن المناسب بلا شك لسرقة المنزل وذلك حين صار فارغاً تماماً من أي كائن… دعوني أسرد عليكم ما حدث, دخل السارق إلى المنزل وكان متنكراً بزي بائع طيور ومعه قفص حديدي بداخله بطة! وأظن أنها هي سبب الرائحة الكريهة التي فاحت في المكان, حسناً, يبدو أنه غير حذاءه بعد أن وطء المنزل كي لا يُخلف أثار أقدام خلفه. صعد إلى الأعلى وتوقف خارج الغرفة ووضع القفص الأمر الذي خلف أربع نقرتين على العتبة الخشبية وهذا ناتج من أحد أطراف القفص, أخرج البطة من القفص وراح يجعلها تسير على الأرض حتى الخزينة وخلفت بذلك أثار أقدام.
أستوضح مانتل:
ـ لكن كيف عرفت ذلك؟
ـ بشيئين صديقي مانتل, الأول أن المسار مستقيم ولا أظن أن الحيوانات وبالأخص الطيور تسير في خط مستقيم. الثاني أن أثر البط ليس مطبوعاً على الأرض كما ينبغي, الأمر الذي يعني أن الطائر المسكين أجبر على السير, و أنا متأكد من شيء أخر, السؤال التالي هو لماذا فعل ذلك؟ الإجابة هي للتمويه يا سيدان! وأرادنا أن ننسى الأمر الرئيسي ونركز على أثار هذا الطائر. دعوني أكمل, ببساطة أذاب القفل بالحامض كما تأكدت وأخذ الخاتم وأنصرف. لكن هناك أمر أخر! كيف سيستفيد منه في بلوشان؟ جميع التجار هنا أو العامة يعرفون قيمة الخاتم ويعرفون المالك الحقيقي له ومن البديهي أن يكتشفوا أنه سارق! لذا فكر الذكي بالتخلص منه خارج بلوشان, لكن بالطبع سُيعرف الأمر وتتم عمليات تفتيش لكل من هو مغادر للمدينة, فكيف يتصرف؟ دعونا من إجابة هذا السؤال ولننتقل إلى قضية مقتل السيدة براون. لماذا يقتل أحدهم عجوزً مثلها؟ ما الفائدة التي تعود عليه من فعل ذلك؟ كان هذا السؤال السبب الرئيسي لتطوعي للعمل في تلك القضية المثيرة للاهتمام, وما زاد تعلقي بها هو الأدلة التي وُجدت في مسرح الجريمة… وُجد في مسرح الجريمة ـ يا سيد كيرنر ـ ريشة بط وأربع نقرات على الأرض الخشبية على شكل مستطيل, من هنا ربطت أن السارق والقاتل قي بها هو الأدلة التي وُجدت في مسرح الجريمة وأردت التأكد من ذلك, لذا قررت البحث عن القاتل لأجد بالتالي السارق… تحدث مع السيد المحترم ـ السيد هوب ـ عن الضحية وقال أن وصيتها الوحيدة هي أن تُدفن في مسقط رأسها, ألا وهي مدينة لار… وقد طلب مني أن أسمع للشرطة بأن يسلموه الجثة لينفذ وصيتها وذلك بأمواله الخاصة الأمر الذي أدخل السرور على قلبي! 
صمت ليلتقط أنفاسه ثم أكمل:
ـ أذكر أنني درست علم النفس عندما كنت في العشرين من العمر, كانت مادة جذابة يا سيدان, دعونا من هذا… أثناء حديثي مع السيد هوب استنبطت أنه شخص كتوم, لكنه كان منفتحاً جداً بخصوص حديثه عن السيدة براون وكان ذلك تمهيداً لطلبه الأخير. حسناً, أذكر أنني لمحت كتاباً ضخم على طاولة السيد هوب, لا أذكر بالضبط اسم الكتاب, لكنه كتاب أو مرجع طبي عن الجراحة! إذاً للسيد هوب معرفة بالجراحة وربما يكون جراحاً, من يعرف؟! ومن عاداتي السيئة أيضاً أنني أجول في المكان الذي أدخل فيه وهذا غير لائق بالطبع وقد يسبب لك الأذى وهذا ما حدث لي عندما كنت في غرفة السيد هوب, فقد صُدمت برائحة كريهة صدرت من ثيابه, وبالأخص من معطفه, وعندما نظرت إلى الأسفل لاحظت أن أرضيته حذاءه مكسوة بطين لزج, تماماً كالذي في غرفة السيد كيرنر الكبير!
شهق كيرنر ومانتل في آن واحد, راح بيتر يلاحظ تعبير وجوههما وهو يضحك, أستطرد بحماس زائد:
ـ أجل أيها السيدان, من هنا بدأت أشك بالسيد روبرت هوب, بل تأكدت تماماً حين ذكر أنه يود نقل جثمان السيدة براون إلى مدينة لار, وصار الأمر حتمياً حين ذكر أنه أستأجر شركة من هناك لفعل المراسم اللازمة. لماذا لا يستأجر شركة من هنا؟ لماذا يكلف نفسه عناء إحضار الرجال من لار؟ ولماذا قد يخسر نقوداً في تنفيذ عجوز عملت معه أربع سنوات؟ كل هذه الأفعال الغريبة كانت… سأروي لكم ما حدث بالفعل… تنكر روبرت هوب في ثياب بائع طيور ودخل المنزل وسرق الخاتم, أراد تأمين وسيلة لإخراج الخاتم خارج بلوشان! لذا اتجهت أنظاره إلى السيد براون, العجوز التي لن يلاحظ أحد وجودها, أي مخبأ أفضل من جثة إنسان؟؟؟؟؟!! أجل صديقي مانتل وسيد كيرنر, أستغل النذل روبرت جثة السيدة براون ليضع داخلها الخاتم لتهريبه إلى مدينة لار,وأستعمل معرفته في الجراحة بفضل ذلك الكتاب لدس الخاتم داخل الجسد كما ذكرت… وقد استعان بأصدقائه هناك لتتم العميلة, حيث تصل الجثة إلى هناك ويستخرج الخاتم ويستفيد من نقوده! لكن للأسف, النقرتان على عتبة غرفة السيد كيرنر الأكبر والنقرات الأربعة على الأرضية الخشبية للمتجر والتطابق بينهم جعلتني أعرف أن القاتل والسارق شخص واحد, كما أن الطين على حذاءه والرائحة على معطفه أكدت أنه هو الفاعل… أما عن استعادة الخاتم فقد استيقظت مبكراً واصطحبت صديقي ـ الجراح ريتشارد ـ كما اتفقت معه وخرجنا مع الشرطة واعترضنا طريق الجنازة, وعندما فتش الجراح ريتشارد الجثة وجد الخاتم هناك! بالطبع هذا أمر مقزز وغير إنساني, لكن الجشع أعمى بصيرة المسكين.
بعد أنهى بيتر حديثه نهض السيد كيرنر من مقعده وقال:
أشكرك جزيل الشكر سيد كوريندكانت, ما كنت أعرف ماذا سأفعل بدونك.
ـ عفواً سيد كيرنر, لا تخف فقد غسلت الخاتم جيداً لك!
ضحك كيرنر وشاهد بيتر وهو ينهض, مشا معه بيتر حتى الباب وعلق كيرنر هناك:
ـ يمكنك مراجعة حسابك سيد كوريندكانت غداً, لا أقدر أن أوفيك حقك!
عاد إلى مقعده وقال لمانتل:
ـ كنت أكره الطيور أيها الصديق, وبالأخص البط, لكن بعد أن ساعدتني تلك البطة في حل هذا اللغز, زال الحاجز بيني وبينهم!
ضحك مانتل على كلام صديقه وقال:
ـ لقد أثبت أنك خارق هذه المرة, كل مرة تفاجئني بما لديك.
قال بتعجرف مصطنع مداعباً صديقه:
ـ وسترى المزيد والمزيد يا صديق!
صمت برهة,نظر إلى صديقه وأردف:
ـ عدم الإنسانية صار متفشياً يا صديق! ما أشد قسوة ما فعل, بالأخص إذا كان الضحية سيدة عجوز, والمسرح محل لزهور!
#Peter_Korendekant

#Abdalrhman_M_Yassin

معلومات عن الكاتب

عبد الرحمن محمد

اترك تعليقاً