(1 )
 أغلق الكتاب الذي كان أمامه وأرجع رأسه للوراء, همس لنفسه قائلاً ” كانت قصة رائعة, كنت لأستمتع بها لولا أنني تعاملت معها كقضية وليس كقصة للتسلية!”
نهض من مقعده وأعاد الكتاب إلى الرف الفارغ حيث كان من قبل. مشى بنشاط عالي حتى وصل القاعة التي تحتوي على الطاولة الخشبية حيث يستقبل عملائه وجلس هناك على كرسيه المعتاد, لم تمض إلا دقائق حتى نهض مسرعاً وتوجه إلى الخارج يستمتع بسماء ذاك اليوم, كانت حقاً لوحة متباينة الألوان, سحب بيضاء ناصعة, طيور ملونة تطير في سرب وقوس قزح الذي أمتد حتى مسافة بعيدة. بعد دقائق من التأمل ضحك بسخرية على نفسه وقال بصوت مسموع ” طيور ملونة! ستموت لا محالة… أحاول الاستمتاع بهذا المنظر لكن هذا فعل الحمقى ومن لا يحملون عبئاً في الحياة…”
صار مانتل مُمكن الرؤية من بعيد لمن يقف أمام المنزل, راح بيتر يلوح له بيده حتى وصله, تعانقا بحرارة وقال بيتر:
ـ لقد افتقدتك أيها الصديق, كيف سارت أيامك؟
ـ أنا كذلك صديقي بيتر, كثير من الإرهاق لكن لا أنكر أنني استمتعت! 
ـ هيا إلى الداخل, أعددت لك كوب من القهوة, أراهن أنك لم تذق مثلها هناك!
ـ بربك بيتر! أنا من يصنع القهوة لا أنت, لكن يسرني ذلك!
وكما توقع مانتل جلس بيتر على كرسيه بينما راح مانتل لإعداد القهوة مضطراً, تناولاها وتخلل ذلك سرد مانتل لما حدث له أثناء زيارته لعائلة يُعتبر هو صديق العائلة بالنسبة لهم. فجأة صاح بيتر وهو ينهض ويمد كوبه الفارغ لمانتل:
ـ هناك عميل في الطريق يا صديق, أراهن أنه عميل غني جداً! هيا فلنهيأ المكان.
وكما توقع طُرق الباب وكان خلفه شاب أنيق المظهر, غالي الثياب ومشرق الوجه باستثناء قطرات العرق على جبينه وعلى ما بين شفته وأنفه, رحب به الشابان وأعدا له مقعداً للجلوس, تفحصه بيتر بنظرات مستفزة وباردة أنهاها بقوله:
ـ النبيل السيد كيرنر الصغير, يبدو أن أمر جلل قد حل بك وإلا ما كنت لتأتي على عجلة!
ـ أزال الشاب الأنيق العرق من على جبينه وتصطنع البسمة وقال بثبات مصطنع:
ـ وكيف عرفت أنني أتيت على عجلة سيد كوريندكانت؟
ـ دعني أخبرك ـ بلا مجاملة ـ أنك شخص أنيق وبالطبع تهتم بهندامك, لكن عدم التناسق ما بين حذاءك, قميصك, بنطالك, سترتك والعطر الذي تستخدمه أيها السيد المحترم يدل على أنك على عجل! وأعتذر عن هذا الاستعراض الغير مفيد لشيء أنت تعرفه… والآن بماذا أخدمك؟
ـ حسناً, أنت تعرف ال كيرنر حق المعرفة حسب ما أظن, شهرتهم وثروتهم ومدى تقديسهم لممتلكاتهم العتيقة القيمة, ومن ضمن هذه الممتلكات الخاتم الذهبي العتيق, أنه باهظ الثمن, بل أنه لا يُقدر بثمن كما أنه من أقدم الممتلكات لدينا وأعزها على قلب والدي, بل على بلوشان بأكملها… قبل يومين خرج والدي مع أصدقاء له للصيد وأخبرني أنه سيقضي ما يقارب الأسبوع, أوصاني وكاد يتوسل لي بأن أحافظ على المنزل من اللصوص ومن السطو حيث تكررت عدة محاولات للسطو على المنزل لكنها باءت بالفشل, أعطيته كلمتي بأن أحافظ على المنزل كما وعدته, وها أنا ذا جالس في المنزل طول اليوم في اليوم الذي يليه, لكن في اليوم التالي تسرب الملل إلي وقررت الخروج في الصباح والعودة مبكراً لتأكد من سلامة ثرواتنا. ولأكون صادقاً معك لم أستغرق بالخارج سوى ساعة ونصف وعدت بعدها إلى المنزل, ولكن للأسف الشديد حدث ما كنت أخشاه وما حذرني منه والدي… لن استبق الأحداث وسأخبرك ما حدث حسب الترتيب, فتحت قفل الباب الأمامي ولاحظت رائحة كريهة في المكان وتمكنت من تمييزها لخروجي للصيد مع والدي في صغري, كانت رائحة بط حسب ظني! تقدمت إلى الأمام وصعدت إلى الأعلى لأطمئن على الخزينة, لكن استوقفتني أثار أقدام طبعت بقع الطين على الأرض الرخامية, كانت أثار أقدام بط مجدداً!  أصابني الذهول وتقدمت متتبعاً أثار الأقدام التي توقفت عند الخزينة! كان القفل قد أُذيب باستخدام حمض ـ حسب تفاعله مع مادة الخزينة ـ فتحتها بهلع وشعرت بخوف مريع لعدم وجود الخاتم الذهبي! لم أعرف ماذا أفعل حينها! فكرت فاللجوء إلى الشرطة لكن الزمن لا يسعني لأنتظرهم حتى يُعدوا أنفسهم للبحث, لذا قررت اللجوء إليك! لأن والدي إذا أكتشف ذلك سيكون… فقط الله يعلم ما سيحدث!
أنهى الشاب اليافع حديثه. راح بيتر يحول نظره من مكان لأخر في أرجاء تلك القاعة, ثبت بعدها عينيه الضيقتين على وجه السيد كيرنر وقال:
ـ مثيرة للاهتمام! بعض الأسئلة ومن ثم سأرى ما يمكنني فعله… إذاً, صف لي المنزل, شكلاً؟!
ـ منزل كلاسيكي عتيق, رخامي الأرض مبني على الطراز القديم يتكون من طابقين أو بالأحرى ثلاثة لكن الثالث شبه مهجور ويحتاج إلى معالجة.
ـ جيد, ماذا عن الأشخاص في المنزل؟
ـ إن كنت تعني أن أحدهم…
قاطعه بيتر ويده مرفوعة:
ـ لا, فقط أجبني!
ـ أعيش أنا ووالدي وثلاثة من العاملين, خادم عجوز, بستاني في الخمسين من العمر وخادمة في مقتبل العمر.
ـ وأين كانوا لحظة وقوع السرقة, أعني العاملين الثلاثة؟
ـ قد يبدو هذا غريباً. لكن الخادمة تزوجت وأخذت من والدي عطلة لمدة أسبوع, والبستاني لا يعمل طول الأسبوع وهذه الأيام حيث يأخذ عطلة في نهاية الأسبوع ـ أي في هذه الأيام ـ أما الخادم العجوز فليس لدي احتكاك كبير به, كل ما أعرفه عنه أنه خادم العائلة منذ أن كان جدي حياً, وله مكانة كبيرة في نفس والدي لذا نترك له حرية التصرف, لكن أعتقد أنه كان خارج المنزل أيضاً.
قطب حاجبيه وقال بنبرة حادة مؤنباً عميله:
ـ لأكون صريح معك سيد كيرنر, هذا إهمال كبير منك, أن منزلكم يُعد لقمة سائغة لدي اللصوص, يستطيع أي متسول اقتحامه. لكن دعنا من العذل الآن فلن يفيد بشيء, هل يمتلك أحد ما مفاتيح المنزل غيرك؟
ـ أجل, والدي يمتلك مفتاحاً, كما أن الخادم العجوز ـ السيد جو ـ يمتلك واحداً لكنه أضاعه حسب ما ذكر والدي.
اكفهر وجه بيتر وقال بلهجة جافة:
ـ حسناً سيد كيرنر, لولا أن لدي من قبل شيء يستطيع حل مشكلتك لما وافقت عليها, أما الآن فسأرافقك إلى المنزل ـ إن كنت لا تمانع ـ لأرى موقع الحادث ولأتحدث مع السيد جو… انتظرني هنا صديقي مانتل لن أتغيب أكثر من ساعة.
هكذا خرج بيتر برفقة الشاب كيرنر حتى وصلا إلى المنزل حيث تفحصه بيتر جيداً وتكلم مع السيد جو الذي كان في السوق وقت وقوع الجريمة. أخيراً قال بيتر للفتى:
ـ هذا الخاتم ثمين جداً وأراهن أنه جميع تجار بلوشان على معرفة به, لذا لا أظن أن بوسع السارق الاستفادة منه هنا في بلوشان لذا سيغادر المدينة, ومن المرجح أن يفعل ذلك غداً لذا لا تقلق, لكن كن أكثر حرصاً.
ـ شكراً سيد كوريندكانت.
ـ لا تشكرني, بل أشكر البط!
 
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 
 
عاد بيتر إلى المنزل كما وعد مانتل, جلس على كرسيه وهو مبتسم. خاطبه مانتل:
ـ وماذا الآن؟ ماذا سنفعل؟
ـ نحاول حل القضية!
ـ لكننا لا نملك دليلاً, وكما ذكرت يمكن لأي أحد أن يسـ…
قاطعه بيتر وهو ينهض من مقعده:
ـ لا بتاتاً, ليست هذه القضية, بل قضية أخرى!
ـ أخرى؟!
رفع الصحيفة وقلب صفحاتها ثم توقف عند إحدى الصفحات وأشار بيد إلى عنوان صغير:
” مقتل سيدة عجوز في محل الزهور ليلة أمس”
 
بدت على وجه مانتل أمارات التساؤل, ضحك بيتر وهو يعيد الصحيفة إلى محلها وعلق:
ـ لا يستطيع أحدهم الفرار من قبضتي, كل ما علينا فعله وهو مساعدة فئران الشرطة في حل هذه القضية وبعدها سأهتم بشؤوني الخاصة.
صاح مانتل محتجاً:
ـ والعميل؟
أجاب صديقه بسخرية واضحة:
ـ مصلحة الأمة أهم من مصلحة الفرد!
 
خرج الاثنان نحو مركز الشرطة حيث استقبلهم المحقق فليب لانج بحفاوة ودعاهم للجلوس, لكن بيتر تعالى عن ذلك بطريقته المعتادة وأخبره أنه هنا للمساعدة في قضية مقتل بائعة الزهور.
ـ أرجو أنكم لم تشرعوا بالعمل فيها؟
ـ أخشى ذلك سيد كوريندكانت, لم أظن أن قضية كهذه قد تثير اهتمامك.
ـ بالطبع تثير الاهتمام! هل تصدق أنني قرأت الخبر في الصحيفة وريشة البط التي وُجدت في مسرح الجريمة هي التي جعلتني أقرر العمل معكم!
ـ أوه! هذا جميل, لم نجد سلاح الجريمة, لكننا وجدنا ريشة بط في المكان – كما ذكرت قبل قليل – وأربع نقرات شكلت شكل مربع أو مستطيل على الأرض.
ـ أجل أعرف ذلك!
ـ إذاً هلم بنا إلى مسرح الجريمة…
#Peter_Korendekant

#Abdalrhman_M_Yassin

معلومات عن الكاتب

عبد الرحمن محمد

اترك تعليقاً