داس حذاءه الأسود يدوي الصنع أرض تلك القرية, تحرك خطوتين إلى الأمام ثم استدار ناظراً للعجوز الذي يقود العربة…
ـ أظن أن هذا هو المكان المعنى, تعال لاصطحابي بعد…
نظر إلى ساعته البرونزية بإعجاب كما كانت عادته ثم أستطرد:
ـ … بعد ساعة, في تمام الثانية عشر!
أومأ العجوز برأسه موافقاً ثم أنصرف…
تقدم بخطوات متثاقلة, متفحصاً المكان بنظرات دقيقة… مرت بضع دقائق حتى وصل إلى مطعم صغير من الخشب, لمس الباب بأصابعه الخمسة ودفعه إلى الأمام. دخل المطعم بعد أن همس لنفسه ” نْعم ما أنتجت غابات إفريقيا…”
ألتفتت أنظار الجميع إليه… رجل ذو طول أكبر من المتوسط,أسمر يميل إلى الحمرة, ذو شعر حريري ,عظيم عظم الكف عريض الكتفين, ذو ذقن بارز يدل على ذكاءه ومكره وعينان ضيقتان تؤكدان هذا الذكاء. ارتدى بدلة خضراء يميل لونها إلى لون القش المصفر.
جلس على إحدى الطاولات ووضع مرفقيه عليها وقبض على قبضته اليسرى بيده اليمنى وراح يتفرس في وجوه الزبائن إلى أن تقدمت امرأة عجوز نحوه وقالت بلطف و لباقة:
ـ السيد كوريندكانت…؟!
رفع الرجل رأسه ناظراً نحو العجوز ورد قائلاً:
ـ نعم… لابد أنك السيدة كارفي…؟!
ـ نعم… أقدر مجيئك إلى هنا وتكبد عناء الطريق و…
فقاطعها السيد كوريندكانت بينما هو ممسكاً بساعته:
ـ أسفاً لمقاطعتك وكوني وقحاً لكن لدي زمن محدد… هلا قصصت على أحداث القضية بالتفصيل؟!
ـ لك ذلك…
ـ الضحية هي سيدة تُدعى السيدة وايت, في الخمسينيات من العمر. كانت سيدة صارمة قاسية في تعاملها. أُصيبت بداء النقرس قبل عشر أعوام, وظلت حالتها تتدهور وتسوء, وقبل بضعة شهور أصيبت بآلام حادة في العمود الفقري وحذرها الأطباء بأنها قد تصاب بالشلل!
نظرت إلى السيد كوريندكانت لبرهة ثم واصلت:
ـ صارت ثقيلة الظل, ودعني أكون صريحة معك! فقد مللت من ثرثرتها وكثر شكواها وكذلك كان حال أغلب باقي أفراد المنزل…
قاطعها السيد كوريندكانت…
ـ هلا ذكرتهم لي…؟!
نظرت إليه السيدة كارفي نظرة تلومه بها على وقاحته ثم قالت:
ـ أنا والخادمة مريم المغربية والسيد آرثر قريب السيدة وايت الذي يكاد لا يجلس معنا لكثرة تنقله وترحله…
صمتت السيدة كارفي فأشار إليها المتحري بأن تكمل, فقالت:
ـ قبل أسبوع من الآن, توفيت السيدة وايت نتيجة تسمم بمادة ” الفوسفات العضوي”,الغريب في الأمر أن أخر ما تناولناه كان طعام العشاء وقد أكلنا جميعا من نفس الأطباق, فلا أعرف كيف حدث ذلك!
علت شفتي بيتر ـ بيتر كوريندكانت ـ ابتسامة ساخرة, وحرك كرسيه قليلاً مستعداً بذلك لشرح القضية… فبادر بسؤال السيدة كارفي قائلاً:
ـ هلا عددت لي أصناف مائدة العشاء تلك الليلة؟ِ
تأملت السيدة كارفي السقف لبرهة ثم قالت:
ـ اعتقد انه لحم, حساء خضار وبعض الكعك… هذا ما أذكره, ولكن أخبرني لما السؤال؟ّ!
قطب حاجبيه بعد أن نظر إلى ساعته ثم قال بلهجة جدية أكثر من ذي قبل:
ـ قضيتك من أسهل القضايا التي واجهتني, لكنها مع ذلك رائعة. كنت أود أن أحلها لكي بأسلوب رائع وأتأنى فيها لكن زمني لا يسمح… لذا إليك حل القضية…
لقد ذكرت أن السيدة وايت مصابة بداء النقرس أنها في مرحلة متأخرة من المرض, فلا أعتقد أنها قد تخاطر بحياتها وتتناول ما يزيد حالتها سوءً, مما أعطى القاتل الظروف المناسبة للقيام بجريمته المكشوفة!
أبتسم بيتر بطريقته الغريبة المعهودة ثم أستطرد قائلاً:
ـ أصناف الطعام التي ذكرتها لم تشكل خطراً على صحة السيدة وايت, ماعدا اللحم فإن له تأثير سلبي على صحتها المتدهورة, وبالتالي فلن تخاطر بتناوله الأمر الذي استفاد منه القاتل وأستخدمه في الجريمة… حسب ما ذكرته إن السيدة وايت تسممت بمادة ” الفوسفات العضوي” وقد وضعها القاتل في جميع الأطباق!
قاطعته السيدة كارفي بحدة وقالت:
ـ لكن كل أفراد المنزل قد تناولوا الطعام من نفس المائدة, فكيف تتسمم هي ونحن لم نصب بأذى؟!
ـ بسيطة جداً…!
سبق وقلت أن السيدة وايت لن تتناول ما قد يضر بصحتها, واللحم الذي تناولتموه جميعاً كان قد يسبب مضاعفات لسيدة وايت لذا فمن الأكيد أنها لم تتناوله منه… دعني أخبرك أين تكمن الخدعة! إن مادة ” الفوسفات العضوية ” لا يظهر أثرها إلا بعد هضم الطعام ودخول المحتوى في الدم فاستفاد القاتل من هذه الميزة. أما عن سؤالك لماذا لم يتسمم أحد غيرها فالجواب يكمن في أن القاتل قد وضع الترياق الذي يبطل تأثير ” الفوسفات العضوية” وهو حسب ما أذكر مادة تسمى ” براليدوكسيم ” وهي عديمة اللون والرائحة, وأراهن أن القاتل قد وضعها في الطبق الذي تأكد أن السيدة وايت لن تفكر في تناوله وهو اللحم!
تغيرت ملامح السيدة وايت وبدأت تبتسم إعجاباً بما سمعت, ولكن قبل أن تتكلم بادر السيد كوريندكانت بالقول:
ـ أما عن القاتل فلا يمكنني الجزم من هو دون البحث عن مزيد من الأدلة…
قاطعته السيدة كارفي بقولها:
ـ أجزم أنها الخادمة, فقد شدت رحالها إلى الديار. واكتشفت عبوة فارغة من مادة ” الفوسفات العضوية ” …لكن لا ألومها على فعلتها فقد ضاق خلقها من تصرفات السيدة وايت لذا لم أعارض سفرها… وقد استدعيتك لتخبرني عن كيفيه حدوث الجريمة وقد أبهرتني بتحليلك هذا!
نهض السيد كوريندكانت من كرسيه وأدخل يده في جيبه ثم قال بشيء من التكبر:
ـ هذه القضية من أسهل ما واجهني, لكن لا أنكر أن فكرتها ذكية ولا تخطر البال فقد أبهرتني وأثارت إعجابي!
صافح السيدة كارفي ثم نظر إلى ساعته التي كانت تشير إلى الحادية عشر و خمسة وأربعين دقيقة… اتجه نحو المكان الذي ترك فيه العجوز أخر مرة, لم تمض إلا ست دقائق حتى جاء العجوز قائداً لعربته ذات الحصان الأسود, ربت السيد كوريندكانت على كتف العجوز ثم طلب منه العودة إلى الديار…
السيد بيتر كوريندكانت
