كان ذاك النهار شديد الحر والشمس تحدق بمدينة بلوشان وترسل إليها كل أشعتها دون رحمة, شعر بيتر بالحر الشديد وأصابه ندم شديد بسبب ارتدائه لسترته الخضراء في هذا الحر, كان ذلك أكثر قرار طائش أتخذه في تلك الفترة حسب ما يعتقد!
عاد إلى المنزل والعرق ينساب من ذقنه الحاد ويتساقط على ممر المنزل, خلع سترته ورمى بنفسه على كرسيه الذي أصدر صوتاً مزعجاً جعل مانتل يسرع نحوه ويقول:
ـ عدت مبكراً, تماماً كما تمنيت!
قال وهو يزيل العرق من جبينه:
ـ بلوشان تحترق يا رجل, لم يسبق أن كانت بهذا الحر, ظننت لوهلة أنني في الصحراء الأفريقية أصطاد العقارب في منتصف الظهيرة!
ـ لا بأس, ما هي إلا أسابيع ويأتي الخريف!
ـ أجل, أسابيع!!
أخرج مانتل من جيبه رسالة وناولها لبيتر الذي راح يتفحصها, أعادها إليه وعلق:
ـ التوقيع يعود لمن تدعو نفسها السيدة هايدوك, و من الواضح أنها غنية, قلائل هم من يستخدمون هذا الحبر الفاخر, أراهن أن محافظنا لا يستعمل مثله.
ضحك مانتل وأضاف:
ـ كفاك سخرية يا بيتر, ستحضر الفتاة في أي لحظة.
ـ أجل, أتمنى أن تكون قضيتها بسيطة, لا أطيق العمل في هذا الحر, كما أن لدي ما يكفي من المال من قضية عازفة البيانو الشابة.
طُرق الباب, سارع مانتل بلاسم بفتحه ودخل الغرفة وبرفقته فتاة شابة, كانت حسناء شديدة البياض حتى أن قطرات العرق على خديها تُخال ندى على وردة بيضاء, كانت فاخرة الملابس وزينت جيدها بلآليء ومعصمها بساعة مرصعة بأجمل الجواهر. أعد لها مانتل مقعداً وجلس على كرسيه بعيداً. حضر بيتر في تلك اللحظة وجلس مقابلاً لها وعلى شفتيه ابتسامته المعهودة, قال بلباقة:
ـ مرحباً بك… سيدة هايدوك؟
ـ أجل سيد كوريندكانت, كنت قد أرسلت إليك بالأمس أطلب موعداً وأعتذر أني تسرعت.
ـ لا, أبداً يا آنسة, لا يوجد ما يدعو إلى الإزعاج, بماذا أخدمك؟
ـ الحقيقة أنني في ورطة كبيرة سيد كوريندكانت, لا أدري أيتوجب على البكاء أم تبرئ نفسي من هذه التهمة الباطلة.
سئل باستنكار:
ـ وكيف ذلك؟
ـ أنا متهمة في قتل والدتي!
استعدل في جلسته وراح ينصت بانتباه حيث يبدو أن الأمر أثار اهتمامه, أشار بيده أن تكمل.
ـ طلب مني زوجي ـ السيد هايدوك ـ مرافقته لحفل راقص وبالطبع وافقت, خرجت إلى الحفل وحين عودتنا صُدمت بالأمر حين رأيت والدتي ممدة على الأرض, أتصل بالشرطة على الفور وركض زوجي في طلب الطبيب لكن للأسف كانت قد ماتت مسبقاً, ماتت مخنوقة! كانت الصدمة قوية علي فقد كانت أمي أغلى ما أملك, لكن صُدمت صدمة أكبر حين سمعت الأقاويل التي تقول أنني الفاعلة…
ـ وما السبب الذي دعاهم لقول ذلك حسب ما تعتقدين سيدة هايدوك؟
ـ لأستولي على الميراث مبكراً, فأنا وزجي نعيش مع والدتي في منزلها وكانت سيدة غنية جداً وقد طلبت مني المكوث معها في المنزل إضافة إلى أن زوجي لا يقدر على نفقات المنزل والطعام لوحده.
ـ هذا جيد, سبب مقنع جداً سيدة هايدوك!
ـ ماذا أفعل سيد كوريندكانت, صار الأمر لا يطاق, الأمر حقاً يضايقني.
غطت بكفيها وجهها وراحت تبكي, أمهلها بيتر بضع دقائق ثم قال:
ـ الآن سيدة هايدوك, سأطرح عليك بعض الأسئلة… متى غادرتما المنزل أنت والسيد هايدوك ليلة الحفل؟
ـ تمام السابعة مساءاً.
ـ ومتى عدتما؟
ـ قُبيل منتصف الليل.
ـ وكيف كان الحفل؟
ـ المعذرة؟!
ـ أعني هل كان رخيصاً, جيداً أم مليئاً بالمشاهير؟
ـ أوه, كان ممتازاً جداً, كما أنني قابلت الكثير من صديقاتي السابقات, كما كان هناك كاميرات لم أرها من قبل وقد التقطت لنا الكثير من الصور.
أدار رأسه ونظر إلى مانتل وحاجبه الأيسر مرفوع والأخر منسدل, أعاد نظره إلى الحسناء وقال:
ـ جيد, هذا عظيم, إذاً لاحظت غياب زوجك أثناء الحفل؟
ـ أخبرتك سيد كوريندكانت, قابلت صديقاتي ولم ألاحظ ذلك, لكن لا أعتقد أنه قد غادر الحفل.
ـ هل لديك نسخة من تلك الصور؟
ـ أجل, هي معي في الحقيبة!
ـ أود أن ألقي نظرة, إذا سمحت!
أخرجت من حقيبتها الصور وسلمتها لبيتر الذي ألقى نظرة عليها وبعدها أعادها إليها.
ـ والآن سؤال أخير! هل تستخدم والدتك عطراً معيناً؟
ـ أجل, أنها تضع عطر الياسمين!
ـ عظيم, فقط انتظري مني رسالة, حسنها سأكون قد حللت اللغز وأعدت إليك سمعتك سيدة هايدوك!
ـ أشكرك سيد كوريندكانت, سأكون في انتظار!
انصرفت الفتاة ورافقها بيتر حتى الباب وعاد, خاطب صديقه بحماس:
ـ مانتل بلاسم!
ـ أجل!
ـ هل تذكر أيام المسرح؟
ـ أجل بالطبع!
ـ حان الأوان لاستعراض مواهبك!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
في اليوم التالي, أحتسى السيد بيتر كوريندكانت قهوته في مقهى مجاور, نهض من مقعده فجأة ليجلس في أخر وأثناء سيره اصطدم برجل وسُكبت بعض القهوة على حذاءه, وضع بيتر كوبه على الطاولة المجاورة واعتذر من الرجل.
ـ أعتذر إليك كل الاعتذار أيها السيد المحترم, أسف على إفساد يومك.
ـ لا مشكلة, سأتدبر الأمر.
ـ يوجد فتى يلمع الأحذية يجلس خلف المقهى مباشرة, من شأنه أن يعيد حذاءك كما كان!
أنصرف الرجل دون كلمة أخرى ودفع بيتر حسابه وهو سعيد!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
طُرق الباب في تمام العاشرة, فتحه مانتل ليجد السيدة هايدوك خلفه, دعاها للدخول وجلست هي وعلى وجهها أمارات السرور مع بعض التوتر. كان بيتر جالساً على كرسيه وطاولته أمامه, المرفقين على الطاولة, كفه الأيمن ممسك بقبضته اليسرى وبالطبع ساعته البرونزية على معصمه الأيسر. تبسم وشرع في حديثه:
ـ أشكرك على حضورك في الموعد سيدة هايدوك, أظن أنني أعرف سر لغزك.
صاحت بلهفة:
ـ أخبرني سيد كوريندكانت, أخبرني!
ـ حسناً, دعيني أولاً أخبرك أن دافع الجريمة هو الطمع, طمع في أموال والدتك ومنزلها. وقد تأكد من الشرطة أن سبب الوفاة هو الخنق! خنق بأداة سميكة! والقاتل سيدة هايدوك يتربع في إحدى زنزانات شرطة بلوشان!
اتسعت عيناها وقال:
ـ حقاً؟ بهذه السرعة؟
ـ أجل!
ـ لكنهم لم يعثروا على سلاح الجريمة!
ـ لم ولن يعثروا عليه, السلاح الآن في السجن أيضاً.
ـ لم أفهم!
ـ حسناً سيدة هايدوك, دعيني أسدل الستار عن مسرحية هذا اللغز… بعد خروجكم من المنزل, حضر القاتل إلى المنزل في تمام العاشرة وطرق الباب! فتحت والدتك الباب وأدخلته ـ لأنها تعرفه حق المعرفة وتثق به ـ أعطته ظهرها ومشت حتى الطابق الثاني حيث غرفتك أنتِ! وهناك سحب القاتل رباط حذاءه وخنق السيدة المسكينة وودعت روحها الجسد! ثم ماذا؟ أعاد رباطه الذي صار مشبعاً بعطر الياسمين إلى حذاءه ـ بسرعة ـ وأنصرف من المنزل. الآن لدينا صفات القاتل, يرتدي حذاء ذا رباط مشبع بعطر الياسمين.
نظر إلى مانتل ثم أستطرد بحدة :
ـ صباح اليوم كنت أحتسي القهوة في المقهى المجاور, وشعرت بالملل من مقعدي فقررت تغييره لكن ـ بالخطأ ـ اصطدمت برجل ذا حذاء بني! ومن هو هذا الرجل؟ إنه السيد هايدوك, وأذكر أن قهوتي انسكبت على حذاءه وكان هذا محزناً, لكنني عالجت خطأي وأرشدته إلى ملمع الأحذية وبهذا أرتاح ضميري.
نهض من مقعده وعلت نبرته:
ـ كان صديقي مانتل بلاسم ممتازاً في التنكر أيام الجامعة, لكن ما أدهشني حقاً أنه ما زال بارعاً في التنكر, فقد صدقت أنا ـ بنفسي ـ أنه ملمع الأحذية وليس مانتل… دعيني أكمل لك يا آنسة, خلع زوجك حذاءه وسلمه لصديقي مانتل الذي تنكر بشكل ملمع الأحذية, خلع صديقي الرباط وقد تفاجأ برائحة الياسمين التي تفوح منه سيدة هايدوك!
اتسعت عيناها السيدة الشابة وشهقت حتى كاد نفسها ينقطع, نظر إليها بيتر وأستطرد:
ـ الآن دعيني أسرد عليك القصة كاملة… خرجت ومعك السيد هايدوك من المنزل تمام السابعة, وصلتما هناك وصادفت هناك صديقاتك السابقات ولم تلاحظي شيء غير ذلك, قُبيل العاشرة أنسحب زوجك من الحفل وعاد إلى المنزل وطرق الباب, أدخلته والدتك إلى المنزل وأخبرها أن عاد لأخذ ساعته, مشت هي وهو خلفها حتى وصلت قرب باب غرفتك, عندها سحب رباط حذاءه وخنقها حتى ماتت! أعاد الرباط إلى الحذاء باستعجال حتى أنه نسي أن يوازن بين الجانبين في الحذاء وصار أحدهما أطول من الأخر ـ وهذا ما لاحظته في الصور التي التقطتها الكاميرات ـ ومن ثم عاد إلى الحفل وكأن شيء لم يكن!
انهارت السيدة هايدوك وسقطت مغشياً عليها, ركض بيتر ناحية الباب وفتحه وكان خلفه سيارة إسعاف في الانتظار! دخل ممرضان وحملاها إلى السيارة وانصرفوا.
عاد بيتر إلى مقعده وقال:
ـ من الجيد أنني طلبت الإسعاف, لم تتحمل المسكينة صدمتين في آن واحد!
سأل مانتل:
ـ كيف عرفت أمر الساعة؟
ـ الصور صديقي مانتل! لاحظت أن معصم السيد هايدوك كان خالياً من أي شيء بداية الحفل, لكن في الصور التي اُلتقطت في النهاية, كانت الساعة على معصمه! كما لاحظت أيضاً رباط حذاءه الغير متوازن.
ـ ولماذا شككت به؟
ـ إنه رجل غير قادر على شراء منزل, وفي نفس الوقت ليس من السهل له أن يعيش مع تلك العجوز في منزل واحد, لذا قرر التخلص منها! كما أن مكان الجثة أكد لي أن الفاعل شخص تعرفه الضحية, فبالطبع لن تسمح لشخص غريب أن يصل حتى الطابق الثاني.كما أن رباط حذاءه في الصور بدا لي غريباً وغير متوازن فشككت على الفور أنه هو القاتل والرباط وهو السلاح! لكن العطر كشفه! ما أشد سخرية القدر!
ـ ولماذا سألت فجأة عن العطر؟
ـ فلنقل أن الأمر بديهي, فكبار السن دائماً ما يتميزون بروائحهم النفاذة, لذا من البديهي أن تعلق الرائحة بسلاح الجريمة.
صفق مانتل وأثنى على صديقه وقال مداعباً:
ـ فكرت في لقب جديد لك يا صديق, ” صانع الأرامل “.
ضحك بيتر, التفت على صديقه وعلق:
ـ كما أفكر في أن أدعوك ” ملمع الأحذية ” فقد كنت مناسباً لتلك المهنة!
تنهد بعمق ثم أضاف:
ـ لولا عطر الياسمين وصور الكاميرا يا صديق, لما قُدر لنا حل هذه القضية. أشكرك عظيم الشكر على مساعدتي أيها الممثل البارع.
#Peter_Korendekant
#Abdalrhman_M_Yassin