الفصل الثالث :
صغيرتي المستكينة في سريرك المتأرجح ، واسيني.. واسي والدتك وشدي أزرها ، قويها فهي لم تعد قادرة على الصمود أكثر.. ضعف كيانها.. ودقات قلبها اصابها الفتور.. لم تعد محسوسة ولا مسموعة كوجودها و صوتها تماما.. !
مرت سنتان بعد ان اصبحت زوجة أولى.. ماذا احكي لاكتب.. ايمان الآمرة المتحكمة في المنزل.. و حماتي توافقها في كل رأي.. اما يوسف فلم يعد الا مجرد صورة في ذكرياتي.. كان يميل بالكفة لايمان في كل شيء.. اما انا فمهمشة اقل ما يمكن ان اقول عن نفسي.. ادخل اسلم اطبخ.. نجتمع على الوجبات.. اغادر باكية.. اذكر يوما اني تركت الطعام على نار هادئة جدا.. و خرجت قليلا.. وعندما عدت.. كانت الاصوات تتعالى.. و كأن امرا جللا قد وقع.. دخلت بفزع.. وقابلني سيل الاتهامات و التأنيب.. يومها منعوني من الطبخ.. وبتعبير بسيط
” فرزو لي معيشتي” ..
انتبهت حينها لامر واحد.. النار لم تكن هادئة كما تركتها بل في أعلى درجاتها.. حسنا يبدو انه افتعال فاعل..! ..
اصبحت اقضي اغلب الوقت داخل منزلي الصغير غرفة وصالة وحمام.. حتى اني اقتطعت جزئا من الصالة ليكون مطبخا مصغرا.. منزلي البائس.. او زنزانتي المفتوحة ، انا و وحدتي ، حتى تلفاز لم اكن املك.. ولم اكن لاذل نفسي يوميا بالذهاب للبيت الكبير حتى اشاهد تلك الشاشة او اتشاركها في بيت ايمان ..!!
كانت امي تزورُني كل يومين و معها اصغر اخواتي ، هدير ، التي لم تكمل الثانية عشرة بعد.. لكن عندما سافرتا لميساء التي انجبت طفلها الثالث.. اصبحت وحيدة.. كدت اجن بين اربعة جدران.. واضحك واتحدث مع نفسي.. يوسف لا يزورُني الا نادرا نادرا جدا ، عندما ياتي ليضع بعض الحاجيات الاساسية للغذاء..
تأملت وجهي في المرآة ، كم اصبحت شاحبة و الارهاق واضحة معالمه على وجهي.. ليس هذا ما اريده.. نحفت اكثر من اللازم .. اهملت نفسي كثيرا.. حتى شعري يشاركني العزاء.. صار مقصفا و منظره يوحي بخطر وشيك ، سرحته بهدوء ، و دفء ، وكأني اقدم له ما احتاج ان يقدمه احدهم الي ، باغتني نزول دمعة يتيمة ، والم غريب في قلبي احسسته قبل ساعات .. سمعت طرق الباب.. ثم فتحه.. لابد انه يوسف انها بداية الشهر يوم يأتي محملا بالاغراض.. ذهبت اليه.. ومددت اليه كأسا من الماء،كان لا يقل شحوبا عني ومجهدا جدا.. نطقت بصعوبة بعد ان ظننت اني فقدت صوتي من فرط ما صمت
” يوسف ”
خرج اسمه مهزوزا و كانت شفتاي ترتجفان ويداي و كل جسدي ان صح التعبير اقاوم موجة كاسحة من البكاء ، نظر الي بعينيه المتعبة ، و اشاح بهما سريعا ، لم تلتقي عينانا الا لثواني.. ثم.. رفعهما الي
” البركة فيك في ميساء يا ابتهال ” ..
” البركة فيك في ميساء يا ابتهال ” ..
سمعتها تكرارا ومرارا في عقلي الذي لا يريد التصديق..
تجمدت كل حواسي رافضة التصديق.. الا دمووع حاااارة جرحت عيناي.. ضحكت وانا ابكي.. نعم ضحكت
” يوسف لو عايز تزعلني لو عايز تقهرني اعمل اي حاجة بس ما تهزر معاي كدا ، لو عايز تعرس تاني عرس انا ما عندي مشكلة بس ما تقول لي كدا ، عايزني اسامحك عشان اخر مرة اتشاكت معاك ميساء ، انا مسامحاك بس ما تقول لي كدا علييييك الله يووسسف ماا تقووول كدا ، يوسف انت عارف هي بالنسبة لي شنو ، يوووسف ” ..
و بكيت بكاء مرا وحامضا.. خارت قواي و جلست على ركبتيّ .. ابكي اختي ابكي صديقتي ابكي ابناءها ابكي وليدها ، ابكي وحدتي!! .. وقف صامتا جامدا.. امام انهياري.. اي برود اكتسبت يا يوسف يراني بالكاد استجمع انفاسي ويقف جامدا.. يراني اتهاوى.. ولا يحرك ساكنا.. اصبحت رؤيتي ضبابية.. ومازلت اراه كتمثال صلب.. !
دخل اخوه مذعورا من صوت البكاء الذي كان عاليا.. دخل و صدم من مشهدي وانا ساكنة على الارض احاول التنفس بصعوبة.. وبالمقابل اخوه الذي ينظر للفراغ دون حراك.. دخل بسرعة و غضب يعتريه.. دفع يوسف من طريقه و وانخفض الي ، ارتبك ولم يدري ما يفعل ، فاسرع الي دولاب الملابس و تناول اقرب ‘ توب ‘ و رماه علي و انخفض الي ليحملني ،
فابعده يوسف ” زح منها ” ،،
لكنه امسك يوسف من ثوبه
” انت لو عايز تساعدها كان ساعدتها من قبيل مش واقف زيك زي الصنم ”
وابعده.. و حملني الى المشفى…!!
انتقلت طيلة فترة ايام العزاء الي منزلي اهلي ، فبعد انهياري ذاك كنت في حالة يرثى لها ، كنت احيانا ابكي واحيانا اكون كالجبل بلا معالم او شعور و أحيانا أضحك ، البعض ظنني فقدت عقلي ، وصارو يعزوني امي على ابنتيها ، واحدة خطفها الموت والاخرى خطفها الجنون! ..
واتذكر حديث خالتي
” يااا حلييلك يا زينب يا اختي خلفتي بنات وقعدتي وهدي وحدة فاتت خلتك و حدة جنت ليك “..
يومها بكت امي بكاء مريرا..
بكت واسندها منذر و حضنها بقوة
” ما ولدتيني لكن انتي امي وما بتحتاجي حاجة طول ما انا موجود ” ..
كبر بعيني جدا حينها…
واقبلت اختي سمية
” اصبرو واركزو شوية هسي كدا ميساء بتكون مرتاحة يعني ؟.. قاعدين تتبكو و تتجننو بدل ما تمشو تشوفو اولادها وين و تواسو راجلها في فقده ” ..
كلامها اعادني الى صوابي ، اقتربت من امي وابتعد منذر بدوره تاركا لي المجال ، و القيت نفسي في احضان امي كنت اسندها وتسندني اقويها وتقويني ، فميساء كان الجميع يحبها ويحترمها كانت تشارك الجميع في كل شيء قلبها لم يحمل ضغينة على احد و ابتسامتها تشفي اعمق الجروح .. بكر والدتي و اختي بل تؤمي ، روحي في جسد اخر .. وقفت معي في كل مشاكلي و يكفيني ذكر اسمها لاشعر براحة عجيبة .. اقتربت منا سمية وقبلت رأس امي
” الله يجمعنا بيها في الجنة ”
ردد الجميع امين بقلوب منكسرة لفقدها ، و تتصبر بموعد اللقاء الذي لا يضاهيه لقاء..
” يوسف ”
ماذا اعرف عنه لاقول .. ؟! .. تركني ثلاث اشهر في منزل اهلي .. لم يأتي .. لم يسأل .. ولي ان اقول لم يرني وجهه حتى .. ولم أسأل عنه ايضا .. يشغلني الان امر اهم منه بكثير .. ” ميساء ” ليست اختي ميساء بل ابنتها الصغيرة التي توفيت وهي تنجبها .. اختار والدها ان يسميها عليها .. كم كان يحترمها ويقدرها ويحبها ..
احضرها الينا لانها صغيرة جدا .. وتحتاج الرعاية .. هي و عمر وعامر ايضا .. عمر ذي العامين لا يتذكر امه كثيرا .. لكن عامر لم يعد عامر اصبح هادئا جدا … وكأن فقد امه كسر داخله شيئا لا يستطيع احد اصلاحه .. دايما ما اجد دموعه تنسكب بلا شعور .. واخبره ان عليه ان يكون قويا من اجل اخوته .. فيرد
” يا خالتو كيف انسى امي ، يا خالتو حتى لما انادي ميساء بحس بامي .. يا خالتو حتى ابوي كان كل يوم ببكي ” …. حبيبي يا عامر .. !
دخل منذر يحمل الكثير من الاغراض ..
” يا خالة زينب ،يا سمية وين انتو تعالو شيلو مني ” …
وانتبه لعامر الذي يراقبه بهدوء .. ابتسم له
” تعال شوف جبت ليك شنو يا عامر ”
” خالو منذر انا ما داير حاجة ادي عمر ” ..
لم يجبره لانه يعلم كم هو عنيد ..
” طيب وين عموري ” ..
جاء عمر يركض وهو يضحك و هو ما يفعله عندما يكون قد فعل مصيبة ما .. كان متسخا جدا و يحمل كأسا مليئا بسائل سكبه كله على الارض ..
” عمر كنت بتسوي في شنو ؟! تعال تعال .. كنت بتلعب بالصابون .. لا انت اكلت عديل ” ..
عمر لا يهتم بما يقوله منذر و يضحك فقط ..
” يا خالو منذر عمر بحب ياكل الصابون وانا برفعو منو كل مرة ” …
دخلت انا احمل سفرة الغداء و انادي الجميع ولم انتبه وزلت قدمي في الصابون المسكووب .. وسقطت من فوري وكل ما احمله ..
صرخ منذر ” ابتهااااااال ” ..