(1 )

 
اسمي أبراهام ريد, كنت المحقق المحلي السابق في مدينة كارفا وأظنكم تعرفون ذلك! لا أحب سرد ما يحدث لي وقصه على الناس وبالأخص قضاياي التي عملت فيها, لكن! هذا المرة وددت مشاركتكم ما حدث لأن هذه القصة تمس الجانب الشخصي لصديقي المميز, بيتر كوريندكانت!
وصلت في ذاك ليل ذاك اليوم المُثلج وركنت سيارتي أمام تلك الأشجار التي تسور منزل صديقي العتيق. ترجلت وتقدمت نحو الباب وطرقته بقبضتي اليسرى بينما انشغلت يمناي بزجاجة من العصير الخالي من الكحول. فتح مانتل بلاسم أسود اللحية الباب وعانقني بحرارة أدفئت أضلعي المتجمدة, اقتادني عبر ذاك الممر الضيق وأدخلني قاعتهم الكبيرة وأعد لي مقعداً للجلوس أمام المدفئة. ما هي إلا لحظات حتى خرج صاحب الساعة البرونزية الضخم من الحمام وشعره مبتل, شعرت بالحيرة كيف يتمكن من تحمل برودة المياه في تلك الساعة من الليل! لكن تذكرت طريقة عمل دماغه و أفعاله الأخرى الغريبة وصار هذا الفعل أكثر من طبيعي. تقدم نحوي بسرعة وعانقني حتى ابتلت ملابسي نتيجة التصاقي به وبملابسه الرطبة, دخل غرفته وقضى دقيقة أو أكثر ثم جلس بعدها معي وراح يسألني عن أحوالي وعملي بطريقته المميزة.
ـ كيف تمضي أيامك سيد ريد؟
ـ العمل في القضايا وربما بعض الوقت مع زوجتي والطفل الصغير!
ـ يبدو هذا مسلياً!
ـ تعني القضايا؟
ـ لا بتاتاً. أعني قضاء الوقت مع الزوجة والطفل!
وضعت يدي أعلى رأسي وشعرت بحيرة, قلت بلهجة بين الجد والمزاح حتى لا أضع نفسي في مأزق:
ـ وهل تعد هذا النوع من الأشياء ممتعاً؟!
ـ ماذا تعني؟
ـ من تعرفي إليك فأنت لا تحبذ الأسرة والأطفال والحياة العائلية!
ـ أنا كذلك, لكن أحب مشاهدة أصدقائي وهم فرحون بها!
ـ هذا لطف منك يا بيتر, أراهن أنك تتمنى لمانتل حياة كهذه؟!
ضحك بسخرية ثم قال بصوت مسموع لمانتل الذي في المطبخ:
ـ أنا أرحب بي هكذا حياة له, لكن لا أعرف؟! من الأفضل ألا نتحدث في ذلك.
ضحكت على هذه السخرية التي أعتاد مانتل تلقيها من بيتر وجلست أنتظر الكلمات التي يريد بيتر طرحها. نظر إلى وقال:
ـ لقد جئت في وقتك يا ريد, فصديقي مانتل مسافر إلى شمال أفريقيا غداً.
ـ حقاً؟ 
ـ أجل, إنه ضمن فريق البحث العلمي عن ما يسمونه ” عالم الفيزياء المنسي”
ـ عالم الفيزياء المنسي؟ ما هذا الاسم.
ـ أعرف! لفظ ” فيزياء ” يثير رغبتي في التفكير بالغثيان, إنه علم الإله وتشبث به البشر, والرب يبعد الأشخاص الجيدين مثلي عنه, ما أبغضه من علم!
ـ من الواضح كرهك الشديد لهذه المادة, إنها ليست بالسيئة, فقط تحتاج للنظر إليها بزاوية معينة!
ـ ها أنت ذا تستخدم مصطلحات اللعينة يا صديقي, دعنا نتحدث عن شيء أخر.
ختم كلامه بالضحك وجاريته في ذلك, بادرت بسؤاله:
ـ متى أخر قضية لك؟ استنتج من مظهرك أنك بلا قضايا منذ وقت طويل!
ـ أنه أسبوع واحد يا صديق! لكن أنت تعرف الشتاء, يبدو أسبوعه كالشهر, استنتاجك صحيح.
ـ وكيف كانت القضية؟ هل هي تستحق هذا الوقت المقدس من العام؟
ـ أوه! إنها مناسبة تماماً, إنها أفضل قضية لي خلال هذا العام, إنها تكاد تكون الأفضل!
ـ لقد شوقتني لأعرف تفاصيلها.
ـ ليست بالمشوقة… ببساطة مقتل مغنية شابة في مسرح المدينة!
ـ تمنيت لو كنت معك, سيكون العمل معك من جديد ممتعاً.
ـ أقدر لك هذا الإطراء صديقي أبراهام, دعنا نحتسي هذا الشراب الخالي من الكحول, أتعرف أن شرب ما هو بارد يجعلك تشعر بالدفء! صديقي من الثانوية أخبرني ذلك.
جاء مانتل ووضع الكؤوس أمامنا, جلسنا الثلاثة وشربنا تلك الزجاجة الضخمة وتخلل ذلك الكثير من الحديث معظمه عن رحلة بلاسم إلى شمال أفريقيا.
قضيت ليلتي تلك مع بلاسم في غرفته, فمن المستحيل أن يسمح بيتر لأحدهم بأن يشاركه غرفته أو فراشه! كانت ليلة باردة وطويلة لكنني لم أشعر بشيء من هذا إثر تعبي الشديد وإرهاقي, حتى أن نهوض مانتل وتجهيزه لعدة سفره لم يوقظني.
نهضت بنشاط عند تمام التاسعة, وجدت بيتر جالساً  على كرسيه العميق وبيده اليسرى صحيفة مطوية وبيده الأخرى فنجان قهوة ساخن. ما إن لمحني أتقدم نحو حتى وضع الفنجان على الطاولة وعدل جلسته بحيث صار مقابلاً لكرسي خشبي فهمت أنني من المفترض أن أجلس عليه, وهكذا فعلت. ابتسم لي ابتسامته المعهودة وقال بلطف:
ـ أرجو أن تكون قد قضيت ليلة جيدة؟
كلامه المبعثر جعلني أضحك وأفهم مغزاه. فقلت كاشفاً لحيلته:
ـ ها أنت ذا تبعثر الكلام يا بيتر, من الأكيد أنك تمهد لأمر ما, ما هو؟ علماً أن ليلتي كانت مثالية.
ضحك بيتر وراح يصفق لي والصحيفة على ركبتيه, رفعها مجدداً ومال ناحيتي وقال:
ـ ألقي نظرة!
نظرت إلى حيث أشار, كان أصبعه يشير إلى عنوان ضخم…
“انتحار فتاة في  الحي الشمالي لبلوشان بعد سقوطها من مبنى شاهق الارتفاع”
 
لم أفهم مغزاه, واكتفيت بالتحديق به علني يعطيني تفسيراً. قال وهو يغلق الصفحة:
ـ قد يبدو خبراً عادياً, لكن قِيل أنهم  ” لمحوا ” أثار أقدام على الثلج قرب الجثة.
ـ إذاً؟
ـ ألم تفهم بعد؟! إذاً هو ليس انتحاراً.
ـ لا تعقد الأمور يا بيتر, ربما تعود هذه الآثار لأحد المارة المتطفلين!
ـ ربما, من يعرف؟! لكن يراودني شعور سيء حيال الأمر, هناك سر ما يخفى على الشرطة.
فكرت قليلاً ولم أعرف ما أقوله له, فاقترحت عليه:
ـ لم لا نذهب إلى مركز الشرطة ونطلب المزيد من التفاصيل, ربما نجد شيئاً يثير اهتمامك أو يؤكد شكوكك.
ـ وما المانع صديقي ريد, هيا بنا!
مرت ساعة, اغتسلت فيها وتناولت فطوري وصرت جاهزاً. ركبت وركب معي بيتر ورحنا نتحدث بشأن بلاسم الذي سافر صباح اليوم إلى ويفت ليلتحق ببقية الوفد ويتجهوا من هناك إلى شمال إفريقيا.
أخذ منا الطريق ربع ساعة, أوفقت سيارتي الخضراء بجانب سيارات الشرطة ودخلنا إلى المركز. مشى بيتر متجاهلين كل من قابله وربما رد على بعضهم بسخرية لاذعة! لم يتوقف حتى دخلنا مكتب رئيس المحققين السيد فليب لانج كما مكتوب في الباب! رحب بنا بحفاوة وطلب منا الجلوس, كانت الطاولة أمامه تكاد لا تتحمل الأوراق المبعثرة, وكان واضحاً أنها تعود إلى قضية انتحار الشابة كما يزعمون.
ـ مرحباً سيد لانج, هذا صديقي أبراهام ريد, إنه المحقق المحلي في مدينة كارفا المجاورة.
ـ أوه بالطبع أعرفه, لقد قرأت عنه في قضيته مع تجار الممنوعات, لقد كنت ذكياً جداً حين أوقعت بهم!
اكتفيت بالابتسام وهكذا كانت عادتي, لا استطيع رد الإطراء. جاء حينها صوت بيتر وعلمت من ملامحه أنه ينوي السخرية:
ـ والآن كن أنت ذكياً بدورك يا صديقي فليب وأخبرنا عن قضية انتحار الشابة.
ـ دعني أخمن! أنت تظن أنها لم تنتحر!
ـ أخشى أنني أفعل!
ـ كذلك أنا, فقد تحدثت مع صديقة لها و أخبرتني أنها ما كانت لتفعل ذلك بتاتاً.
ـ هذه نقطة تؤكد شكوكي, إضافة إلى أثار الأقدام التي طافت حول الجثة حسب ما ذكرتم. متى وقعت الوفاة؟
ـ عند الثالثة صباحاً. لقد وقعت من سطح مبنى به ثمان طوابق!
ـ هذا سيئ! وهل حددتم سبب الوفاة.
ـ أجل, كانت السقوط من هذا الارتفاع سبباً كافياً.
ـ صف لي نوع الأرض التي سقطت عليها؟
ـ للأسف الشديد, أرض صلبة عليها بقايا أدوات بناء ومغطاة بطبقة من الثلج سمكها ثلاثة سنتيمترات.
ـ لقد طورت من نفسك صديقي فليب! دعنا في الأهم, لماذا هذه الأدوات؟ هل العمارة التي سقطت منها لم تكتمل بعد؟
ـ بلى, إنها قديمة! لكن المبنى المقابل لها في طور البناء! إنه الأول من نوعه في بلوشان, هل تصدق أنه يحوي نوافذ تعكس الصورة كالمرايا.
قال بيتر وهو ينظر إلى الأرض:
ـ أظنني سأتولى هذه القضية, أريد الملف وكل ما يتعلق بنتائج الطبيب الشرعي.
ـ لك ذلك.
ألتفت نحوي وقال ويده اليسرى على ركبتي:
ـ ها نحن ذا نتولى قضية جديدة!
ابتسمت رداً له وأومأت برأسي موافقاً ومناصراً. حملنا الأوراق وطلب مني بيتر وضعها في السيارة, فعلت كما طلب وانتظرته حتى يخرج من المركز, جاء ومعه المحقق لانج, ركب بيتر معي بينما ركب لانج مع أحد رجال الشرطة وقادوا سيارتهم وتقدموا, وهنا طلب مني بيتر السير وراءهم حتى نصل إلى موقع الجريمة!
وتماماً كما وصف لنا السيد لانج, كانت الأرض مغطاة بالثلج وأسفله بقايا أدوات بناء مبعثرة, كان المكان حيث وُجدت الجثة بين المبنيين العملاقين تماماً, راح صديقي بيتر يحوم في المكان ورأسه إلى أسفل حتى أن ذقنه الحاد كاد يلامس أزرار قميصه الأبيض. رفع رأسه وقال مخاطباً فليب لانج:
ـ كالعادة! أفسد رجالك أثار الأقدام. فليكن الرب في عوني.
تدخلت حينها وسألت:
ـ نفتش غرفتها الآن؟
ـ هذا ما كنت أفكر فيه.
صعدنا جميعاً إلى غرفتها التي تقع في الطابق السادس. ولحسن حظنا وحظ لانج أن أحد لم يدخل الغرفة, دخل بيتر أولاً وراح يتفحص المكان تارة بنظراته وتارة بيده, اكتفيت أنا بالمراقبة والسيد لانج كان يتحدث مع الشرطي الواقف عند الباب. 
ـ وجدت شيئاً ما!
صاح بيتر وتجمعنا جميعاً حوله, وجدنا داخل خزانتها صندوق من الخشب متوسط الحجم, كانت الديباجة على مكتوب عليها هذه الكلمات:
ويفت ـــــــ المنطقة الغربية 
شارع روز كلفن الدائري
الصنف رقم: 180065 SW 
 
سأل بيتر:
ـ ماذا يعني لكم الرمز 180065؟
ـ ليس لدي أدنى فكرة.
تدخلت حينها:
ـ يمكنك إرسال رسالة إلى بلاسم ليتفحص المكان, علنا نجد ما كان داخل الصندوق.
ـ فكرة ممتازة صديقي أبراهام, دعنا نأمل ألا يكون قد سافر!
بحث عن ورقة ليكتب رسالة إلى بلاسم, وجد على سرير الضحية كومة أوراق, أخذ إحداها وصُدم بأن هذه الأوراق هي مذكرات ـ أو كانت لتكون مذكرات ـ للضحية.

سأعود إلى منزلنا الجميل بعد إتمامي لأداء ما جئت لفعله, أتوق لرؤية هذا الحلم منذ سنوات, وها هو ذا يحقق حلمي! 
جوانا ويست

ـ إذاً هذا ليس منزلها! أسدي لي خدمة أيها الشرطي وأبحث عن مسكن جوانا.
نظر نحوي, وحينها ـ ولأول مرة ـ لمحت نظرة حزن في عينيه الضيقتين, قال لي بلهجة لم أستطيع تفسيرها:
ـ لقد وجدت في هذه القضية الكثير من الأشياء الغريبة, الآن أسدي لي خدمة وأكتب لي مانتل رسالة مستعجلة ليتفقد العنوان المكتوب على الديباجة.
هززت رأسي موافقاً وحملت القلم للكتابة, بينما وقفت صديقي والورقة بين يديه, راح يعيد الرسالة مراراً وتكراراً! لم يكن يستنتج منها شيئاً! هذا ما كنت متأكداً منه!
طبقت الرسالة ووضعتها في مظروف وطلبت من الشرطي 

معلومات عن الكاتب

عبد الرحمن محمد

اترك تعليقاً